المادة    
إن الله تبارك وتعالى لما أنزل أبانا -الإنسان الأول آدم عليه السلام- إلى الأرض، جعل له منهج الهدى، وقال: ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى))[طه:123] ومعنى لا يضل ولا يشقى. أي: الهداية والسعادة، فتكفل الله تبارك وتعالى لمن اتبع الكتاب والسنة وطريق الرشد الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهداية والسعادة، منذ أن نزل الإنسان الأول وإلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها، ولا يمكن أن تتحقق الهداية والسعادة والرخاء إلا في ظل الإيمان بالله، والحياء منه، وامتثال أوامره وطاعته تبارك وتعالى.
  1. من صور فقدان الأمن في الآخرة

    قال الله عز وجل: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:124] نعوذ بالله من ذلك، فالصراط أحدُّ من السيف وأدَّق من الشعرة، فكيف إذا بعث الإنسان أعمى، هل يمشي على هذا الصراط أم يقع في النار -نعوذ بالله-؟ ((قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً))[طه:125] يقول: إنك يا ربنا تعيد الخلق كما بدأته أول مرة، فكيف هذا العمى بعد البصر في الدنيا؟ قال: ((قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى))[طه:125-126] - نعوذ بالله - ولهذا نخاف والله من أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً لرب العالمين: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً))[الفرقان:30].
    فهجر القرآن هو الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، وعن تحكيم كتابه، عن التعاون لإقامة دينه، وخصوصاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نخشى والله أن يكون هذا الهجر واقعاً فتكون النتيجة هي أن نفقد السعادة والهداية.
    وانظروا إلى الذين يتعاونون لإسقاط حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو الشفاعة في حد من حدود الله تبارك وتعالى، إن ذلك يسبب الهلاك، ولذلك لما سرقت امرأة مخزومية من قريش، وهاب الصحابة أن يكلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنها، وعلموا أنه سيقطع يدها، فكلموا أسامة بن زيد لعله يشفع لها عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمنزلته عنده، فأتاه فكلمه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكأن الأمة قد انقض عليها صاعقة من السماء، وقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد}.
    فإذا كان المجتمع يتواطأ ويتعاون على أن لا يقام حد من حدود الله تبارك وتعالى، أو على أن يشفع في حد من حدوده، فإن النتيجة الحتمية لهذا المجتمع هي أن يزداد الخوف، وتزداد الجريمة، أما إذا كان التعاون على البر والتقوى، وكان موظف أو رجل الهيئة مع رجل الأمن، ومع الرجل العادي، كلهم يتعاونون على ألا تشرب الخمر -مثلاً- وعلى ألا يكون الزنا، وتكون السرقة، وإذا كان حد من حدود الله تبارك وتعالى لم يشفعوا فيه، ولم يبدلوا ولم يغيروا في البيانات ولا في الأوراق، ولا في أي شيء من شأنه أن يعطل هذا الحد أو ينفيه، فإن النتيجة حينئذٍ أن يكون الأمن والرخاء بإذن الله تبارك وتعالى.
  2. من صور فقدان الأمن في الدنيا

    ذكر الله في سورة النحل قوله تبارك وتعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ))[النحل:112] هذه الآية تدل على ذلك، وهذا مثل ضربه الله تبارك وتعالى عن قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، بماذا يحلم أي مجتمع في هذه الدنيا بأعظم من ذلك، الأمن والطمأنينة والرزق الرغد، والعيش الهنيئ الرخي الذي يأتي من كل مكان، تجلب فاكهة الشتاء في الصيف وتجلب فاكهة الصيف في الشتاء، انظروا إلى حالنا ولله الحمد، لا يوجد لون من ألوان النعيم المادي والترف إلا ونحن نعيش في بحبوحته، فكل أنواع الفواكه، وكل أنواع المشروبات، والملبوسات، والمطعومات، والروائح، وكل أنواع الأبنية، وما يتعلق بها، وكل أنواع التجهيزات موجودة في المجتمع أو في البيوت.
    ولكن حين تبارز الله تبارك وتعالى بالمعاصي، وتعارض أوامر الله تبارك وتعالى وتعترض على ما أنزل الله جهرة وعلانية -كما تفعل كثير من المجتمعات- فإن ذلك لا يستغرب أن تصاب بما ذكره الله تبارك وتعالى حين قال: (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ))[الأنعام:44] فهؤلاء القوم أغرقهم الله تبارك وتعالى بأن فتح عليهم أبواب كل شيء ولم يقل كما في الآية الأخرى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ))[الأعراف:96] وكما في الآية الأخرى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ))[المائدة:66] فهذا النعيم إنما هو في حق المؤمنين إذا آمنوا واتقوا، لكن لما نسوا ما ذكروا به، نسوا الإيمان وتخلوا عن التوحيد إلى الشرك والبدع والضلال، وتخلوا عن الطاعة وأخذوا المعصية وتركوا أمر الله تبارك وتعالى إلى ما حرم ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ))[الأنعام:44] وانظروا إلى الإحصائيات الدولية في التفوق المادي، الدول الغربية هي الأولى في إنتاج الذهب، والفواكه، والزراعة، والصناعة، وكل شيء، ولا تنسى الجانب الآخر، فهي في الجرائم متفوقة متقدمة، وفي الاختطاف متفوقة متقدمة، وفي الزنا متفوقة متقدمة، وفي الإيدز متفوقة متقدمة، فهي الأولى في كل شيء.
    ولكن ما هي النتيجة بعد ذلك؟ (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا))[الأنعام:44] وقال تعالى في آية أخرى ((حَتَّى إِذَا الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا))[يونس:24] حتى أنهم درسوا كيف يواجهون الأعاصير - الإعصار الذي يأتي وقد يكون قطره مائة كيلو متر أو أكثر من عرض البحر- بواسطة الطائرات وبواسطة العلم، وبواسطة كذا: (( وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ))[يونس:24]، ظنوا أنهم يستطيعون حتى في الزلازل وحتى في الأعاصير.
    فماذا تكون النتيجة؟! (( أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ ))[الأنعام:44] نعوذ بالله من عذاب الله، بغتة أي: فجأة ((فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام:45] وقال تعالى في آية أخرى: ((فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ))[العنكبوت:40]، وهذه قاعدة عامة، وهي: أن جميع الأمم أخذوا بذنوبهم، كما قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ))[الفجر:6-14] فالذين طغوا في البلاد فإن الله لهم بالمرصاد في كل زمان وفي كل مكان، إذا قضى الله تبارك وتعالى أمراً، وسنة كونية؛ فإن هذه السنة لا تختلف ولا تتغير ولا تجامل ولا تحابي أحداً، بل ربما تكون العقوبة لمن يطيع الله تبارك وتعالى، ولمن يعصيه عن علم أشدُّ وأعظم من عقوبة من تنزل به وهو في غفلة وإعراض وراء إعراض.